2008/01/20

غير متاح مؤقتا

بالعربي,خرابيش — نورا @ 16:57

فور انتهاء لقاء عمل قفز الموبايل من بين يديها منتحرا في أحد الشوارع الجانبية بوسط القاهرة أمام احدى البنايات المهمة.. انزلق برشاقة وعزم في فتحة شديدة الضيق لبالوعة مجاري تساعه بالكاد.. وانتحرت معه عشرات الرسائل التي نحتت روايتهما القصيرة.. مد أحد عساكر الحراسة يده داخل البالوعة وخرج ذراعه ينقط الماء العطن.. عبثا حاول انقاذه – تعب الانتظار حسم الموقف، لقد اتخذ الصمت ملاذا..

أدارت المفتاح في باب الشقة ومدت رأسها من فتحة صغيرة.. همت أن تطلق ندهة عالية ثم أجهضتها ودخلت في صمت.. فتحت النوافذ على وسعها رغم برد الشتاء وأغلقت باب الشقة بالمفتاح.. تممت على ملابسه في الخزانة وأكوابه المفضلة في المطبخ..

نفضت التراب عن عدة الهاتف الأرضي، أوصلتها بالمقبس، ووقفت تتأملها للمرة الأولى.. آخر مرة تعاملت فيها مع هاتف أرضي كان رماديا بقرص دوار.. كتبت الأرقام العربية بالفضي على خلفية حمراء، والانجليزية بالأحمر بين فراغات الأصابع العشرة.. كان أبيها يضع قفلا صغيرا بين رقمي واحد واتنين حين شك أن شابا يعاكسها وهي بعد في الثانية عشرة.. وكانت –بالطبع– تعرف مخبأ المفتاح بفضل تواطؤ أمها.. ومنذ نهاية سنوات المدرسة لم يفارق الموبايل كفيها.. حتى كان موبايلها الأخير.. ساعة، فهرست، وتأريخ لزخم شفهي..

خطت خمسة أرقام بقلم رصاص على ورقة صغيرة وأرقدتها جوار الهاتف.. ثلاثة أصدقاء، والسوبرماركت، ورقم هاتف منزلها.. ثلاثة أرقام أخرى لم تحتاج أن تكتبها، فقد نحتت في ذاكرتها: أمها، وأخيها، وحبيبها الغائب.. اتصلت بالسوبر ماركت وطلبت أصنافه المفضلة ثم أسكنتها البراد.. في المساء أخذت دشا ساخنا والتقطت زجاجة عطره من أمام المرآة.. نثرت بعض رذاذها على كتفيها وذراعيها.. أزاحت الغطاء جانبا واحتضنت نفسها ونامت..

يا أجمل ليلة في عمري حبيبي جاي
يا وردة بيضا في شعري حبيبي جاي
يا عقد ياقوت على صدري حبيبي جاي

الحب الأول بدون موبايل كان له طعم خاص.. كانت تنتظر حبيبها متصنعة المذاكرة في الشرفة أيام الثلاثاء والأربعاء.. يمر أمام منزلها في أي وقت بين السابعة والتاسعة.. يطلق نفير سيارته فتختفي سلالم الأدوار الأربعة تحت قدميها.. كان تعاقدها الأول مع موبينيل بقيمة ألف جنية للخط فقط، ولم يكن هناك أية خيارات أخرى حين ذاك.. وبالطبع كانت هدية حبيبها الغيور حتى يجدها في أي وقت، فلم يكن أبيها ليدفع هذا المبلغ على “كلام فاضي”..

صباح اليوم التالي اكتشفت أنه بعد مصرع الموبايل لا توجد ساعة واحدة في المنزل.. من ذا الذي يشتري ساعة حائط اليوم؟.. رفعت سماعة الهاتف وضغطت أزرار التون واحد ثم خمسة “تم تغيير الرقم الخاص بالساعة الناطقة الى الرقم 150”.. عبس وجهها وهي تضرب 150 ولكن سرعان ما اطلقت ضحكة صاخبة حين طالعها صوت أبلة فضيلة الدافيء “الساعة السابعة، وستة وأربعين دقيقة، تماما”..

أطبق صمت أليف على المنزل لعدة شموس وليال.. لم تذهب لاستقبال أصدقائها العائدين الى مصر بعد غياب، ولا لدفع الفواتير.. آثرت العزلة.. ففي وحدتها فقط تكون معه.. من ذا الرجل الذي دخل منزلها ذات ليلة وقلب حياتها رأسا على عقب؟ قلبت في أوراقه التي خلفها في المنزل.. راجعت ما نشر من أعماله الأولى.. دارت في رأسها قصص طفولته وشخوص أقاربه الذين عرفتهم من حكاياته.. حتى قبر أمه، زارته في خيالها عدة مرات.. في لقائهما الأول توقفا عند السوبرماركت للتسوق.. مشاجرة مفتعلة بينهما لحظة دفع الحساب دفعته لحملها عن الأرض بين ذراعيه قائلا للكاشير “لحظة واحدة وراجعلك” أدخلها سيارته وأغلق الباب بحزم وحنو قائلا “استنيني هنا ياحبيبة بابا”..

الورد كله كله
كسا الجناين
واشمعنى انتي
اللي شاردة منا

تداعى فيها صوته الدافيء وهي تقلب وعاءا تصاعد دخانه فوق الموقد.. “عندي معاد شغل وعايزك تيجي معايا”.. “عايز ورنيش أسود وبني”.. “حبيبتي احنا محتاجين نركب ستارة في الحمام”.. “جبتلك الترابيزة دي عشان نلم فيها الجرايد المبعترة في كل حتة”.. “يا سلاام لو الواحد يقوم على ريحة طبيخ في البيت”.. “ألبس ايه؟”.. “خليكي انتي، أنا هافتح الباب”.. “معزوم على عرض مسرحي.. تعالي معايا ونطلع من هناك على….

في أول لقاء لهما بعد غيابه الأول جلست بين ذراعيه واجمة.. رأسه على كتفها ورأسها على كتفه.. قالت بصوت خفيض “أنا مسحت نمرتك من الموبايل”.. أمسك كتفيها وأبعدها عنه قليلا محدقا في عينيها “بس انتي أكيد حافظاها”.. قالت كاذبة “لأ”.. صمت ثم قال مازحا متملصا من ثقل الموقف “يعني أنا لما أطلبك دالوقت كأن شيماء بتطلبك مثلا؟”

في ناس كتير
لكن بيصير
ما في غيره

غير قابل للتفسير.. هكذا وجدت حالها.. رفضت شراء موبايل جديد وآثرت الصمت.. تحول صخب حياتها الى سكون عبثا ينتظر رجل خرج ذات يوم ولم يعد.. وحدها تعرف أنها كانت أمه وعشيقته وليس ابنته.. سيعود.. وحدها تأنس في حمى “يقين ما”.. تخاف أن ينكسر.. جلست وعيناها هناك.. على باب الشقة، بدلا من الموبايل..

19 Comments »

  1. جميلة قوى.

    Comment by Mohamed ElGohary — 2008/01/20 @ 17:28

  2. دنتي أديبة يا نورا ولا احناش عارفين
    قصة جميلة جدا وأظن أن لها في عقلك ” رفقاء ” فتجميعها ونزيلها في مجموعة قصصية حتبقي جميلة حيث سبقها أيضا من فترة قصة ميلادك الثلاثين
    بالتوفيق وربنا يعوض عليها الموبايل واي حاجة كمان

    Comment by abdelmonem — 2008/01/20 @ 21:49

  3. حلوة اوي يانورا,واحشانا ياعم

    Comment by MaLek — 2008/01/20 @ 22:48

  4. كله انتظار

    Comment by Mohamed A. Ghaffar — 2008/01/21 @ 11:24

  5. خربوشة رائعة

    Comment by مراقب مصري — 2008/01/21 @ 12:24

  6. إمتى هاشتري الكتاب؟؟ لو سمحتي! 🙂

    Comment by مروة — 2008/01/21 @ 12:55

  7. جميلة أوى

    Comment by Eman M — 2008/01/21 @ 13:15

  8. لولا أنها حلوة قوي .. كانوا الأصدقاء العائدين من السفر زعلوا و اتئمصوا جدا.

    واحشاني قوي قوي قوي

    Comment by منال — 2008/01/21 @ 17:55

  9. طيب هو تيليفون الراوية الأرضي مفيهوش زيرو؟ يعني مش ممكن مثلا في الحلقة الجاية نقرأ أن البطلة اتصلت بالأصدقاء اللي رجعوا من السفر و موبايلاتهم في ايدهم؟ و لو النمرة ضايعة فيه twitter و facebook و email و حوارات

    Comment by alaa — 2008/01/22 @ 12:54

  10. وااااااااااو
    جميلة جداً قوى قوى قوى
    تحياتى .. وعايزين من دا كتير
    قريتها فى توجو
    تحياتى
    والله ليكى وحشة جداً

    Comment by Ashraf Ibrahim — 2008/01/23 @ 20:48

  11. Welcome back…. it is always nice to read for you 🙂

    Comment by Doaa Abdelaal — 2008/01/24 @ 14:59

  12. جميل يا انورا ايه الابداع ده كله دا ولا يوسف ادريس

    Comment by nody — 2008/01/24 @ 23:32

  13. خربوشة رائعة

    Comment by هدى — 2008/01/26 @ 11:46

  14. ماشاءالله
    دومتى مبدعة نورا
    فى انتظار جديدك

    Comment by emy — 2008/01/26 @ 18:12

  15. حقيقي جميلة
    اكثر ما اعجبنى هذا الجزء
    تداعى فيها صوته الدافيء وهي تقلب وعاءا تصاعد دخانه فوق الموقد.. “عندي معاد شغل وعايزك تيجي معايا”.. “عايز ورنيش أسود وبني”.. “حبيبتي احنا محتاجين نركب ستارة في الحمام”.. “جبتلك الترابيزة دي عشان نلم فيها الجرايد المبعترة في كل حتة”.. “يا سلاام لو الواحد يقوم على ريحة طبيخ في البيت”.. “ألبس ايه؟”.. “خليكي انتي، أنا هافتح الباب”.. “معزوم على عرض مسرحي.. تعالي معايا ونطلع من هناك على….

    فيه واقعية ودفء حميم فعلا
    اعجابى بك يتزايد فاستمري للامام

    Comment by اسرة بهائية من مصر — 2008/01/31 @ 7:11

  16. حلوة

    Comment by أحمد عزت — 2008/02/01 @ 20:40

  17. مكنتش اعرف ان الكوبس اسمه مقبس بالفصيح

    Comment by أحمد عزت — 2008/02/01 @ 20:43

  18. اعجبني كثيرا تسلم يديك

    Comment by مرامي — 2008/09/29 @ 8:39

  19. جـيـد ….

    Comment by ed3s — 2008/10/03 @ 2:48

تلقيمة التعليقات على هذه التدوينة

علِّق على التدوينة




Write to me راسلني